رواية بدون عنوان

عندما كنت طالبا جامعيا، بدأت في كتابة مشروع رواية لم اكملها ولم اضع لها عنوان بعد، ورغم تحفيزات الاصدقاء الا انني لم المسها منذ سنوات بعد ان وقفت في الفصل الرابع.

قبل ايام وفي نقاش مع احد اصدقائي، وهو عضو بهذا المنتدى، خطر ببالي ان انشرها بالمنتدى لكن بطريقة مبتكرة، وهي على اعتبار ان الراوي في الرواية يتعدد في صيغه ما بين ضمير المتكلم للبطل والبطلة والراوي الكل المعرفة والرسالة والمذكرات والهلوسات والاحلام، وكأن الرواية كانت تدريبا ليغ الرواية حيث لم تتخذ شكلا واضحا.

بناء على هذا خطرت ببالي ابتكار شيخصياتها للكتابة عن نفسها، مثلا ستجدون اعضاء معنا في المنتدى تحت اسم "كوثر" و"كريم" هذه شخصيات غير حقيقية انا تسجلت بها من أجل كتابة هذه الرواية. وكلما احتجت الى شخصية جديدة ساقوم بالتسجيل بها في المنتدى، واتمنى الا يسبب هذا اي ازعاج لاعضاء المنتدى، لانني ارغمت هؤلاء الاعضاء الجدد على الكتابة فقط في هذه الرواية ولا يحق لهم ابدا في الكتابة خارجا عنها .

ياه....!
منذ أشهر لم أزر الكلية، أحن إلى الضجيج وحيوية الشباب والمرح المرسوم على الشفاه، وأشتاق إلى زميلاتي والثرثرة التي لا تنتهي

باب الكلية كعهدي به، مقشّر، فاعر فاه يلفظ أجسادا ويستقبل أخرى، مجموعات من الطلبة تصخب وتملأ الفضاء ضجيجا.

تجولت عيناي في الهول المتسع فبدت لي سميرة، ياه، منذ مدة طويلة لم ألدغك في جنبك يا سميرة؟ أشتقت إليك أيتها الكسولة، ما زلتِ محافظة على مكانك قرب السبورة النقابية وعلى شاعرك إبراهيم.

ساحة 19 يناير "الهول" تعج بالطلبة، الضجة عارمة والمقاعد مشغولة، بحثت عيناي عن احد الرفاق، او مقعد فارع، لم اجد لا هذا ولا ذاك.

رأتني سميرة، فهبت مسرعة كالعاصفة، كادت تسقط على وجهها عندما تعثرت بإحدى قوائم الكرسي الذي يجلس عليه حسن الألمعي، الذي طالما أسمعني كلمات الغزل الرقيقة وقصائدا لنزار قباني عسى أن يصيب من نفسي وترا.

أربع قبلات بالكمال والتمام لسميرة، ثم اصطحبتني إلى المجموعة التي كانت تجالسهم، لقد عدت فافردوا لي مكانا شاسعا بينكم، سأعب ما استطعت من كأسكم قبل ان تعود فترة البيات المنزلي.

- كريم

من؟
ابراهيم، تعرفت عليه خلال الامتحانات الشفوية في السنة الفارطة، وقد أزعجني آنذاك بقصائده، يمتلك موهبة فذة، لكن تلك الفترة لم تكن مناسبة للاستماع إلى الشعر.

- تعال إجلس معنا!

انسقت إلى طلبه بألية استغربتها وقدمني إلى الموجودين معه:

- أولا هذا كريم، لا يزورنا إلا لماما كمطر الصحراء. حسن الألمعي الذي لا يتقن شيئا سوى الحصول على الامتياز في آخر السنة، وصبوتي الآنسة المصونة سميرة، أضنك تعرفها، والأميرة النائمة كوثر ...

لم أعد أسمع التتمة، حينما التقت عيناي بعيني كوثر غادرني جهاز السمع، انفصلت عن الدنيا فجأة، العينان السوداوان الواسعتان، تلك العينان اللتان ارتسمتا ألف ألف مرة في ذهني قبل ان اراهما الآن، سحرني بريقهما ولم احس برعشة يدي في يدها الممدودة إلي، وبلمح البصر انطبعت الصورة، في حلم انا أم خيال؟ أهاتان العينان اللتان طاردتاني طويلا هما لوجه هذه الانسانة المدعوة كوثر؟ جلست كالمشلول.

تشعبت مواضيع النقاش، وغادرنا البعض. كنت ألحظ نظرات الاعجاب في عيني الطالب الجديد الذي التحق بنا، أو ما سماه ابراهيم "مطر الصحراء"، لا ادري لماذا اعطاه هذا اللقب!!

كنت احاول اكتشاف هذا المطر في وجه كريم، ملامحه دقيقة وعيناه تبدوان حزينتان وضعيفتان، وفي العمق يبدو حنان دفين.

انفض الجمع، وضللت أنا وابراهيم وسميرة وكريم. كان ابراهيم منهمكا في قراءة قصيدة له لسميرة.

الوجه الأسمر المدور كخبز أمي الطازج، والشعر المختفي خلف غطاء الرأس تناسق مع الفستان المسدل على جسدها الشاب، وأنا غبت في البحيرتين الغائرتين.

- الاستاذ كريم من أين؟

اللهفة واضحة على وجهه، أيضنني صيدا نسائيا سهلا؟

صوتها هادئ، لمعان عينيها شروق بحري شاعري.

- من الضواحي، من قرية على البحر.

تشاغَلْتُ يالاستماع إلى ابراهيم، كان يقرأ لسميرة همسا، تململت كوثر، نظرت إلي بمغزى، ابتسمت.

كأنه تعمّد تجاهلي، قطع الحديث وركز أذنيه مع قصيد ابراهيم التي لا تعنيه، جرحني هذا التجاهل ممّا دفعني لأن اعبر عن تضايقي من هذا الجو بالتململ في مقعدي، وعندما نظر إلي كريم ابتسمت له كي أشجعه على الحديث، كي أكتشف ما خلف هذين العينان الحزينتان. كانت مبادرتي موفقة.

قال لي:

لندعهما منسجمين، ما رأيك؟

- انت على صواب، هيّا بنا.

غادرنا بوابة الكلية، فتساءلت:

- إلى أين نذهب؟

- إلى لا مكان

ضحِكت، وقالت:

- أنت مثل ابن عمي، ما رأيك في مقصف الحديقة؟

أثار ضحكي، ذكرني بابن عمي الذي كان يحاول دائما أن يبهرني ببعض كلماته القصيرة المبهمة الببغائية، كي يبدو مثقفا غزير الاطلاع.

سرنا متجاورين، لم أشأ أن اخبرها في أن "لا مكان" هي الترجمة الحقيقية لمصطلح "يوتوبيا" حتى لا أجدخل في مناقشة فلسفية تخطف مني هذه اللحظات.

تشبث بسروالي طفل متسول يُكْثر من الحضور بالكلية، بعد أن أَحْرجَ ذات يوم أصحاب اللحي، لإذ اقتحم عليهم حلقيتهم فكان صيده وفيرا.

- الله يخليها ليك

تورّدت الوجنتان السمراوتين، غظت من بصرها، فنفَحْتهُ درهمين.

- إن شاء الله يرزقكما ذرية حسنة.

ضحِكَت، التقت العيون في لحظة مديدة، تمنيت معها لو يتوقف الزمن. تسربنا عبر ظلال الاشجار العالية في الحديقة.

الحديقة شبه فارغة هذا الصباح، غريب هذا.

قدته بسرعة إلى مكاني المفضل، ذلك الركن الذي شهد مغمراتي الأولى مع سعيد، جلس قبالتي، وضعت رأسي بين يدي واسندت ذراعي إلى الطاولة، كأنني أخفي وجهي حتى لا يراني شخص ما.

ما جئت إلى هذه الكلية إلا من اجل الحديث، وهروبا من الصمت المخيم على المنزل، وهذا المطر يعشق الصمت على ما يبدو، لا يتكلم إلا بعد ان أبادره باحدى الاسئلة، يدفعني إلى الجرأة رغم خجلي الشديد.

رفعت وجهي وقلت له:

- لا نراك كثيرا في الكلية؟

- ظروف العمل لا تسمح لي بالتواجد كثيرا.

merci

ميرسي

- موظف

- منذ متى؟

- منذ أزيد من 6 سنوات.

ما هذا الاستنطاق، بالكاد أستطيع أن أجيب، أحسست بإحراج شديد أن أجيب على هكذا أسئلة في مثل هذه الجلسة وبع دقائق قليلة فقط من تعارفنا. كم هي جريئة تريد أن تعرف كل شيء عن محدثها دفعة واحدة.

ست سنوات من العمل!! لا تبدو على وجهه ملامح التقدم في العمر، قد يكون متزوجا ويمارس الآن مغامرة جديدة. أنا اعرف هذا الصنف إنهم يعتقدون أن الطالبات يسقطون سريعا في الشباك إن علموا أن محدثهم موظفا أو يمتلك مشروعا. كنت أكثر من الأسئلة لأضع النقط فوق حروفها، لرسم صورة وضاحة له. فسألته:
- هل أنت متزوج؟

- لا!!!!!!!!!!!!!!!!

ابتسمَتْ، فشقشق في قلبي ضوء ساطع من نور الفجر.

لقد كانت توقعاتي خاطئة، فلمّا رأيت الفرحة تزغرد فوق شفتيه، قطّبت جبيني، وقلت:

- أنا متزوجة.