حول أصول قبيلة متيوة

السلام عليكم

أود أولا أن أحيي تحية أخوية صادقة ملؤها التقدير الأخ المشرف الجبهاوي على بادرته الحسنة وكذلك باقي المشرفين على المنتدى ، اعترافا بجهودهم المستمرة لإغناء ساحات المنتدى والدفع به قدما .

بهده المناسبة ، يسعدني أن أقدم لأعضاء منتدى الجبهة نت الموقر ، ولزواره والمهتمين بالمنطقة بما فيهم الطلبة والباحثين ، نصاً يتحدث عن قبيلة مثيوة (بالثاء في النص الأصلي) نُشر باللغة الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر ، في كتاب عنوانه : المغرب المجهول . دراسة جغرافية واجتماعية . نشر الجزء الأول منه في سنة 1895 تحت عنوان استكشاف [بلاد] الريف ، والجزء الثاني سنة 1899 تحت عنوان استكشاف [بلاد] اجبالة .

تقديم عام :

إن النص الذي ترجمْتُه لكم هنا مقتطفٌ من الجزء الأول من الكتاب . كتَبَه كاتبٌ فرنسي اسمُه أوكُسْتْ مولْيِيراس ، عاش ببلاد الجزائر أيام الاستعمار بها ، حيث كان يشْغَل كرسيَّ أستاذِ اللغةِ والأدب العربي بجامعة وهران . ويُصرِّح مولييراس هذا في مقدمة كتابه قائلا : " ولدتُ في تلمسان على قابِ قوسَيْن من حدود المغرب ، تربَّيت وترعرعت تحت سلطان فكرتين لم أتوقف قط عن التأمل فيهما إلى يومنا هذا : 1. التعرُّف على جارنا الغامض ؛ 2. إدخالُه في محيط تأثير فرنسا " ص.5 . هو إذن كاتبٌ لا يُخفي نواياه التوسعية والاستعمارية منذ البداية ، لذلك يكون في لفظه أحيانا بعض الإجحاف ؛ إلاّ أنه لم يَسْتكشف بلاد المغرب الأقصى بنفسه ، بل اعتمد على ثلاثة أنواع من الموارد لإنجاز عمله ؛ أولا : كُتُبُ الرحالة والمؤرخين العرب ، كابن خلدون والبكري وخصوصا " كتاب الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى" ، لصاحبه السلاوي . ثانيا : كل ما استطاع الحصولَ عليه مباشرة من معلومات وأخبارَ زوَّده بها بعض أصدقائه الذين كانوا ينتمون إلى كل فئات المغرب المختلفة آنذاك ، أو مغاربةٌ كانوا يترددون على الجزائر للعمل هنالك . ثالثا : رجل اسمه محمد بن الطيِّب . وسأتوقف عند هذا الشخص فيما يلي ، لأن ما رواه هو المادة الخامة الأساسية التي اعتمد عليها الكاتب الذي يسرد في كتابه أحداثَ رحلاتِ ابن الطيب عبر بلاد المغرب ، خصوصا بلاد الريف وبلاد اجبالة ، لمدة دامت اثنين وعشرين سنة . يقول مواييراس عنه : " ولقد أسعفني محمد بن الطيِّب إسعافا منقطع النظير ؛ فلولاه لكان قد استحال علي نشر ولو واحد في المائة من هذه الوثائق ، ولولاه لربما كنت لم أكتب أي شيء عن المغرب ، ولولاه لكانت المعلومات التي زودني بها باقي من أعرفهم من المسافرين المسلمين ستكون هزيلة ، ناقصة وعديمة الأهمية لدرجة كان سيكون من الأفضل إلقاؤها في النار بدلا من إخراجها للنور " ص.7 .

فمن هو محمد بن الطيب هذا ؟

وصفه : " كان يلبس جلبابا طويلاً من الصوف أبيض اللون له أكمام قصيرة ، رأسُهُ مغطىً "بالْقاب" ، لحيتُه شديدة الشقرة ، وجهُهُ هزيلٌ من كثرة السير والحرمان الذي قاسى منه ، لكنه يشبه بطريقة مدهشة صور المسيح التي أكسبتها الرسوم والتصاوير شعبية كبيرة ببلادنا ، عيناهُ زرقاوان ونظراتُه منخفضةٌ تقريبا كل الوقت وكأنها مثبتة فوق أنفه أو لحيته ، مشيته متمايلة ومترنحة ، كانت بنيتُهُ العامة بنيةُ شخصٍ نحيلٍ قليل المتانة . تلك كانت أوصافُ الرجل الذي تعرّفتُ عليه ذات مساء من أواخر شهر يناير من عام 1894 . كان مظهره مظهر درويشٍ بكل معنى الكلمة ، معتوهٌ بعض الشيءِ لكنه غير مؤذٍ . وسنرى عبر صفحات هذا الكتاب أنه هو الذي أعطى لنفسه هذا المظهر العام - وإن لم يعد اليوم قادرا على التخلص منها ولو أراد ذلك - لكي يثير شفقَةَ من يراه فيعْبُرَ سبيلَه دون أن يلفت النظر إليه أينما حلَّ . فيا له من احتياط ممتاز ، خصوصا في بلاد كالمغرب " ص.8 .

بداية رحلته : أصله من بلاد القْبايْل من برابرة الجزائر ، " عند بلوغه سنَّ السابعةَ عشر تقريبا ذهب متنقلا على قدميه ، بطبيعة الحال ، بصحبة طُلبة آخرين لزيارة زوايا مختلفة بتونس وإقليم قسطنطين بالجزائر . عند عودته إلى مدينة بْجايَة التي وُلدَ بها ، تابع تعلُّمَه بالكتاب ، دون أن يفصح لأيٍّ كانَ عن مشاريعه في المستقبل . فمنذ تلك الفترة وهو يفكر في رحلة طويلة إلى بلاد المغرب الأقصى لتحقيق ثلاثة أهداف في نفس الآن : الجولة في البلدان ؛ الهروب من الاحتكاك بالنصارى الذين كان يَمْقتهم ؛ أخذ العلم عن علماء فاس الذين دام صِيتُهم المبالغ فيه شيئا ما ، بعد هيمنة المغرب السياسية والأدبية . وذات يوم من سنة 1872 ، رحل عن مدينة بْجايَة وعن دار أبويه دون أن يخبر أحدا بذلك ، ودون أن يودّع أيا كان من ذويه الذين لم يتلقَّ أخبارهم إطلاقا منذ ذلك الوقت . ربما كان عمره ستة أو سبعة عشر عاما ، وكان يتنقل ماشيا على قدميه ، خاوي الوفاض ، ليس له من المتاع سوى لَوْحه ، وحيث حلَّ كان يتلقى قوتَ يومه من المحسنين ، طعاما غثا لكن بكمية كافية . كان يسافر في مراحِل قصيرة ، موليّاً ظهره للشرق متجها نحو المغرب . فتوقف في الجزائر العاصمة لبضعة أيام ، حيث كان هدفه من ذلك زيارة المدينة بقدر ما كان يروم بعض الراحة ، إلاّ أن عدد النصارى واليهود هنالك كان أكبر منه بكثير في بجاية ، فاستأنف سيره متّبعا ساحل البحر، لكي لا يتيه عن طريقه لمدة طويلة " . ص.8 - 9 .

جولاته بالمغرب من 1972 إلى 1993 : بعد مغامرة مع الشرطة بمدينة وهران وبعد أن نزل مجبراً على ذلك من الباخرة التي ركبها في ميناء هذه المدينة ، حيث أدى بعض المحسنين ثمن نَقْلتِه ، اضطرَّ إلى المشي حتى وصل مدينة وجدة ، بصحبة حشد من الريفيين العائدين إلى بلدهم بعد موسم الحصاد بأراضي المعمِّرين بالجزائر ." منذ ذلك الحين بدأ محمد بن الطيب حياة طَالْبْ شريد كهذه ، تائها عبر امتداد المغرب الشاسع الذي جابَهُ طولا وعرضا لمدة دامت اثنتين وعشرين سنة . كان يأكل وينام في الجوامع مع باقي الطُّلْبَة الذين يشملهم بِرُّ السكان ألا متناهي ، فيُؤْكِلونهم ويُسْكِنونهم ويُلْبِسونهم لسنين طويلة جدا ، دون أن يسألوا الطالبَ الجديدَ منهم عمن هوَ ، ومن أين أتى ، وإلى أين هو ذاهب . ما من أحد كان إذن مؤهلا أفضل تأهيل من الدرويش لرحلة من هذا النوع . كانت البربرية لغة مولده لأن أصله من القْبَايْل البربرية ، فسيسعفه ذلك إسعافا لا حد له في هذا البلد الذي لم يُغْرِقه طوفان اللغة العربية تمام الغرق . بفضل إتقانه تمامَ الإتقان لِلَهجة بجاية الوحيدَة ، سيستقبِلُهُ أهلُ الريف وكأنه شقيق لهم ، في بلد متوحش مجهول مطلقا ، حتى تمكَّن من استكشاف البلاد خطوةً خطوةً ، على هواه ، واستطاع أن يقدمَّ لنا الوصف الوحيد الذي نجده لهذا البلد . وبفضل معرفته للعربية وللبربرية في آن واحد توغل في قلب البرابر ، هنالك حيث لم يحطَّ قطُّ أجنبي قدمه . ستكون طلعتُه كدرويش بائس أحسنَ جواز لمروره في كل مكان ، إذ لم يملك أبداً أي جواز آخر . كان يمشي مدفوعا بقوة لا تهزم دون أن يكون هو نفسه واعيا بذلك ، لكنه لا يمكث طويلا في نفس المكان ، لا ينشد إلا التجول في البلدان ، ولقاء أناس جدد ، ومعرفة عادات لم يعرفها من قبل . لم يسجل أي شيء من ذلك على ظهر ورقة ، لكنه نقش الكلَّ في أعظم ذاكرة جغرافية خارقة عرفها الوجود . بدأ هذا الاستكشافُ ، دون توقف ولا سكون ، سنة 1872 وتم سنة 1893 ". ص.10 .

في الحلقة القادمة أقدم لكم ترجمتي للنص الذي اخترته لكم ، من ص. 63 إلى ص.74 من الجزء الثاني من الكتاب . يبدأ بتقديم سريع لجميع قبائل الريف ، ويستمر بوصف لقبيلة مثيوة ولبعض طقوس وعادات سكانها في تلك الحقبة ، ولأحداث عاشها محمد بن الطيب في القبيلة ، منتهيا بفصل مخصص لعلاقة السكان وممثليهم من أعضاء الجماعة والقياد مع السلطات المخزنية آنذاك . أود أن أصرح لكم أن عمل الترجمة هذا أمتعني كثيرا ، وأنني اعتمدت فيه على أصول الترجمة العلمية وذلك باحترام المعاني التي عبر عنها مولييراس وباحترام الألفاظ التي استعملها هو نفسه . أتمنى للجميع ، أعضاءً وزواراً ، متعة جمة واستفادة وافية.

بقي أن أقول أن نشر هذا النص سيتم في حلقات ، مرتين في الأسبوع : كل ثلاثاء وكل جمعة بحول الله . فإلى الثلاثاء القادم ، إن شاء الله

مع تحياتي ومودتي
محال الموساتي 

تنبه فقط .
جولاته بالمغرب من 1972 إلى 1993
اعتقد انك كنت تقصد . 1872 الى 1893

السلام عليم ،
لكم فيما يلي نص مولييراس



" عدد قبائل الريف ثلاثون . تستحم إحدى عشرة منها في الأبيض المتوسط . ومن الشرق إلى الغرب تتدرج القبائل البحرية كالتالي : تْريفة ، كبدانة ، قلعّية ، بني سعيد ، تمسمان ، بني ورياغل ، بقّيوة ، بني يطفث ، بني بوفراح ، بني جميل و مثيوة .

ومن الشرق إلى الغرب دائما ، جنوب هذه القبائل البحرية ، تتواجد القبائل التالية : بني ازناسن ، بني مَحْيُو، اولاد اسْتّوت ، بني بو يَحيي ، بني وْلشّك ، تافرسيت ، لمطالصة ، كزنايا ، بني توزين ، بني عمّرث ، مغراوة ، بني بشير ، بني مْزْدْوي ، زّرقث ، تركيست ، بني سدّاث ، بني خنّوس ، بني بو نْصَر ، تاغزوث.

جل هذه القبائل تقريبا يسكنها البرابرة . واللغة العربية غريبة عنهم ، أما لغتهم التي يدعونها تمزيغت فتحتوي على لهجات عديدة تتقارب فيما بينها ، باستثناء كبدانة وبني زناسن ، لأن لهجتهم وإن كانت من أصل بربري فإنها مخالفة لتمزيغت بشكل ملحوظ . أما تْريفة واولاد ستّوت فيتنقل عبرهما عربٌ رحّل . ويَعتبر برابرة الريف أن هذه القبائل الأربعة الأخيرة (كبدانة ، بني ازناسن ، تْريفة واولاد ستّوت) غير ريفية ؛ فلهجتُهن وعاداتُهن تمنعهم من أن يعتبرونها قبائل شقيقة للناطقين بتمزيغت ". ص. 48

[b

]قبيلة مثيوة

[/b]


[center] معناها بالبربرية "الهائلة" وبالفرنسية "l’énorme"

[ أ. الجغرافيا والحياة الاجتماعية ]

[ 1. وصف مثيوة الجغرافي : موقعها ، أهميتها وفِرقُها : ]

يمكننا أن نتبع خط سير الدرويش خطوة فخطوة على أية خريطة . فلقد انطلق من قبائل الريف الجنوبية الغربية متقدما ببطء نحو الشمال دون أن يغادر ، إن صح التعبير ، حدود منطقة اجبالة . فهاهو يصل الآن إلى القبيلة البحرية الواقعة أقصى غرب منطقة الريف ، حيث تقوم مثيوة مقام حاجز بين هذه المنطقة الأخيرة وبلاد اجبالة ، ويجب على هذا الحاجز أن يكون متينا ، لأن للبلد بعض مواطن الضعف ، خصوصا من الجهة الساحلية ، إذ لا تنتصب أية عقبة طبيعية بين اغمارة ومثيوة من جهة البحر ؛ فاغمارة ، القبيلة الجبلية القوية ، الأوسع مساحة والأكثر ساكنة لأقصى حد من مثيوة ، تنقض من حين لآخر على جارتها الريفية ، لكن ينتهي الأمر دائما بهذه الأخيرة إلى صد هجماتها بفضل الوحدات المسلحة التي يزودها الريفُ بها بعدما أُنذر بالخطر المحدق بها.

تعرض مثيوة للبحر ساحلا طوله حوالي عشرين كلم ، وتتوغل في الجنوب مسيرة يوم (40 كلم) . تحد غربا بقبيلة اغمارة الجْبْلِيَّة ؛ وشرقا بقبيلة بني جميل الرِّيفيَّة ؛ وجنوبا بقبيلة بني سدّات الريفية أيضا ؛ وشمالا بالبحر الأبيض المتوسط . وتنقسم إلى خمسة فرق هي :

1. آيت مْحمّْد المتاخمين غرباً لغمارة على جنب البحر ،
2. تِثُولا (الخنادق بالبربرية) التي تنتهي شمالا إلى البحر الأبيض المتوسط ، وإلى بلاد اجبالة من جهة الجنوب الغربي ،
3. آيت عبد الله ، وهي فرقة بحرية أيضا ، متاخمة لبني جميل ،
4. بني علي ، فرقة تتوسط القبيلة ،
5. الربع الفوقاني ، فرقة تقع في جنوبها .

أهم قرى مثيوة : تاكموت (بالبربرية ، المحاطة بالأحجار) ، وهي مرفأ بحري ، بها 100 كانون ؛ سيدي فتوح أو القلعة ، مرفأ بحري أيضا ، بها 100 كانون ؛ تثولا الموجودة على الواد الحامل لنفس الاسم ، بها 100 كانون ؛ سوق الاثنين ، وهو موقع أكبر سوق بالقبيلة ؛ تزيارث (بالبربرية ، دالية العنب) ، بها 100 كانون .

القوى العسكرية : تسلح كل واحدة من فرق مثيوة 1200 رجل بالبنادق ، أي 6000 من الجنود المشاة على مستوى كل القبيلة. ؛ ساكنتها تقدر ب 30000 نسمة ؛ عدد قراها يقدر ب 60 قرية ؛ أما تعليم القرآن فليس شائعاً بها .

تكتسي مثيوة أهمية خاصة لأنها تشكل الحدود الغربية للريف كما أنها تمتد على ساحل البحر الأبيض المتوسط . وهي تُستعمل بالفعل ممرا بين الريف ومنطقة اجبالة ، فهضابها القليلة الارتفاع بعيدة عن معارضة العابرين بها بحاجز متين متانة مرتفعات القبائل الريفية الجنوبية العالية . فيجب إذن على الفيالق التي قد تقوم بعمليات عسكرية في الريف أن تدخل إليه من هذا المسلك أو عبر القبائل البحرية شرق المنطقة ، لأن جدار الصبَّار السميك الذي يبدو أن مثيوة تتركه عن قصد منتصبا بينها وبين اجبالة ، لا يشكل عقبةً لا تتجاوزها الجيوش الحديثة . سنتغلب إذن على الريف إذا أخضعنا أولا القبائل البحرية منه ، وحاصرنا ثانية سكان الجنوب في عُقر جبالهم ، إذ لن يفوتهم أن يقاوموا مقاومة ضارية ، انطلاقاً من معقلهم الطبيعي الذي تكونه جبال الريف الشامخة ، على طول الخط الجنوبي .

وقبل افتراقه عن مضيفيه بداروتان ، حصل محمد بن الطيب منهم على جلباب من الصوف ، وبلغة جديدة ، وحايك ، وما تيسر من النقود . بعدما قام بجولة طويلة في القبائل الجبلية المتاخمة ، كرّ عائدا إلى الريف آتيا من اغمارة ، عبْرَ قبيلة مثيوة . والساحل الممتد من اغمارة إلى قرية القلعة الريفية هو عبارة عن منبسط متموج من الصخور الهائلة ، لا تجتاز أمواجها الصخرية إلا الطيور أو حوافر الماعز السريعة . ويسمي السكان المحليون هذه السلسلة من الصخور السلّوم . آتيا من اغمارة إذن ، اضطر الدرويش إلى المرور جنوب فرقة آيت محمد متفاديا أجراف السلّوم الصخرية ، تاركا عن يساره مرفأ تاكموت الصغير، المعروف أيضا باسم الجبهة (الواجهة أي الرأس) .

قراءة ممتعة أتمناها للجميع

مع تحياتي ومودتي
محال الموساتي

نتابع إذن رحلتنا مع الدرويش ، محمد بن الطيب


[ 2 . أحداث قاتلة بالقلعة : ]


وصل إلى قرية القلعة إذن بعدما سلك طريقا جانبية دامت مسيرة يوم . تقع هذه على جانب البحر ، حيث بُنيت على ضفتي واد تِثولا عند مصبه . وهي عبارة عن مرفأ صغير يسميه أهل البلد مرسى سيدي فتوح . ويقال أن السفن الكبيرة الحجم تستطيع أن ترسوَ فيه ، فأدى تخوف السكان من اجتياح الإسبان للبلاد ، منذ قرون خلت ، إلى تواجد حامية بربرية مداومة بها ، تمَوِّنُها فرق مثيوة كل واحدة بدورها .

ومساء وصول الدرويش بالذات إلى القلعة ، استقبله أهلُها كالمعتاد بمودة في جامع القرية ، حيث وَجد هناك بعض الطٌّلبة وكثيرا من عابري السبيل الأجانب . انتظر بأناة ساعة العشاء ، ففي المغرب الأقصى لا يتعشى الناس إطلاقا إلا بعد صلاة العشاء ، أي حوالي التاسعة مساء . وبمجرد ما كبّر المؤذن أول تكبيرة ، امتلأ الجامعُ بحشد من الطُّلبة والنساك ، من الشيب والشبان الذين كانوا يُصلُّون حاملين لبنادقهم الواردة من انجلترا (الكلايط) ، فأوحى مشهدُ الناس وهم يُصلُّون مسلحين للدرويش بأن الثقةَ لا تَسُود بين هؤلاء المتعبدين ؛ وبعد لحظة سيأتيه البرهان على ذلك . أما الطعام فقد تأخر كثيرا ، حتى أحضره أشخاص يحرسهم ستون رجلاً مقلَّدين ببنادقهم ، فقدَّموا لضيوف الجامع الطعامَ الذي يتكون من دجاجاتٍ وسمكاً وسمناً وعسلاً وخبزاً من الشعير، لأن الخبز المصنوع من القمح لا يُتَناول إلا نادرا في بلاد الريف ؛ فمن مثيوة إلى حدود الريف ، لا يُزرع القمح إلا نادراً إن لم نقل أبداً .

بانتهاء وجبة العشاء ، عاد الأشخاص الستون من حيث أتوا ، راجعين إلى ديارهم بالأطباق الفارغة ، وقبل أن يقطعوا مسافة مائة متر، تناهت إلى الأسماع طلقاتُ بنادقَ كثيفة . فلم تتوقف أحاديثُ وضحكاتُ ضيوفِ الجامع بسبب حادث عادي كهذا ، فقال أحد الحُضُور بلا مبالاة :
" اسْمَعْ ، ها هُم كَيْقْتْلو بَعْطُم غا ها فَيْنْ ."
بعد لحظة حضر من أنبأهم أن اثنين ممن أَتَوا بالعشاء قد لقوا حتفهم في وسط القرية ، على يد أعدائهما الشخصيين . فقال الدرويش متسائلاً ، وقد ألِفَ عادات اجبالة الأكثر ليونة :
- أَشْ مْنْ قْبِيلَة هَدِي ، اللِّي كَيْقْتْلوا فيها الناس بَعْطُمْ هَيْدا على وَالُو".
فأجابه أحد الطُّلبة :
- انت اغْشِيمْ بْزّاف ، ماشي احْنَا فْالرِّيف ؟ واشْ عُمّْرُو مات شي ريفي بْمُوتْ طَبيعِيَّة ؟ كَيْموتوا كامْلِين غا بالْحْدِيد أو بالقْرْطاصْ . الكْنازَة دْيالُم كَدّوزْ دْغْيا دْغْيا . كَيْجي شي واحد وكيقول : "فلان مات ، قْتْلو فلان ، الله إرْحْمُو . قوموا نْصَلّو عليه ونْدْفْنوه" . وأضاف الطالب متأهبا للوقوف :
- عْلَى كلِّ حال دِيكْ الشّي اللِّي خْصْنا نْعْمْلو

حذا كل زملائه حذوه ، فخرجوا جميعا من الجامع يتبعهم الدرويش ، قاصدين منزل الميتين . كانت قناديلُ يتصاعد منها الدخان تضيءُ جثتيّ القتيلين اللتين غُسلتا على الفور ، ووُضِعتا في الأكفان ، لم يعد يظهر منها إلا الرأس . قدَّم أصحابُ البيت للطُّلْبة عسلاً وسمناً وخبزاً ، ثم أكلوا وشربوا معهم ، دون أن تَبْدوا عليهم أيةُ علامة من علامات الغمِّ والكآبة . فسألهم محمد بن الطيب :
- وْعْلاشْ ماكَتْبْكِيوْ شي عْليهْم ؟
- قْتْلوا وْتْقْتْلُوا ، هَدَا ما كان .
وقضوا الليلةَ جميعا يرتلون ، آكلين شاربين ؛ إذِ السهر على الموتى في الريف لا يكتسي طابعَ الحزن ، على أقل تقديرٍ بالنسبة للطُّلبة الذين يجدون فيه فرصة سانحة للإفراط في الطعام والشراب طوال الليل ، فضلاً عما يحظون به من سنتيمات معدودات جزاءً على ما رددوه من الذكر الحكيم ، ترحما علي الهالكين .

إلى حلقة قادمة بحول الله ،

مع تحياتي ومودتي
محال الموساتي

السلام عليكم ،

فقرة الحلقة تخص بعض العلاقات الاجتماعية في مثيوة ، نهاية القرن التاسع عشر ، والممارسات التي تنتجها طبيعة هذه العلاقات . أتمنى لكم أحلى اللحظات .


[3 . صور من الحياة الإجتماعية لأهل مثيوة :]

وصباح الغد رحل الدرويش عن القلعة متوجها إلى سوق الاثنين الذي يقام في وسط القبيلة بقرية سيدي ابراهيم نفسها . وبدأ يرتقي موليا ظهره للبحر تلالاً وجبالاً صغيرة متتابعة ، تكسوها القرى ؛ وعلى مرمى البصر، يمتد الصبَّار الذي لا مخرج منه مغطّيا الهضاب والوهاد بكتلته الخضراء ، لكن هذه الغابة الفريدة لا تخل من المسالك والشِّعاب الضيقة .

وبالرغم من أن الفصل فصل قيظ ، فإن النسيم الذي يهبُّ دون انقطاع كان يرطِّب الجو بنفحاته . وكانت من عادة الدرويش أن يستكشف البلاد دون عَجَلةٍ ، متنقلا من قرية إلى أخرى وهو يراقب أحوال البلاد ويدرس أعراف وعادات سكانها .

سكان مثيوة الأصليون هم من عرق بربري ، يتكلمون كلهم تمازيغت ، وقليل منهم يجيدون العربية . إنهم بُسلاء ، لكنهم ميالون إلى اغتيال بعضهم ، كما أنهم يعيشون في حالة استقلال كامل . وعبر كل القبيلة تقريبا ، من قرية إلى قرية ، ومن دار إلى دار، توجد بينهم عداواتٌ رهيبةُ حيث تشهد القبيلة يوميا معارك دامية ؛ وليس نادرا أن نصادف شبانا في سن العشرين قد تجعدت أجسادهم من آثار الجروح رميا بالرصاص أو طعنا بالخناجر . المثيوي صلب العود ، قوي قوةَ خ.... بري . وبالرغم من فظاظته ووحشية طبعه ، فمن العادات العريقة عنده إكرام الضيف ، فهم يتنازعون على الضيوف حقيقة من عائلة إلى أخرى . وقد شهد الدرويش يوما معركة مرتبة يعود السبب فيها إلى عابر سبيل غريب عن البلد ، كانت تتشاجر عائلتان على استقباله ، وفي النهاية بقي ثلاثة رجال صرعى في مكانهم ، بينما اصطحب المنتصرون الغريبَ بافتخارٍ إلى سقيفة عزوتهم . وتطلق لفظة العزوة في الريف على عشيرة صغيرة في كل قرية ، تتكون من عائلتين أو ثلاثة عائلات متحالفة فيما بينها . ولكل عزوة سقيفتها الخاصة ، فغالبا ما تعيش العزوات المختلفة شاهرة السكاكين في وجه بعضها البعض . ومن جراء ذلك ، لا يخرج الرجال إلا في الليل ، لأنهم إذا تجرؤوا على الخروج في واضحة النهار ، فسرعان ما توقِفُ ركضَهم طلقاتُ الرصاص الآتية من العزوات المجاورة لعزوتهم .

وعلى العكس من ذلك ، يمكن للنساء التنقل في أي وقت من أوقات النهار أينما أردْنَ ، دون أن يتعرضن لأي خطر ، فالعفو الكامل والدائم يشملهن وحدهن فحسب ؛ فيسقين الماء ، ويجمعن الحطب ، ويترددن على الحقول ، دون أن يزعجهن أحدٌ أبدا . ويضطر أرباب الأسر المتعرضين لهذا القدر من المخاطر إلى اكتراء الأجانب للقيام بحرث أراضيهم ورعي مواشيهم ، لذلك لا تنتهك حرمتهم تماماً مثلما لا تنتهك حرمة النساء .

ففي مثيوة ، كما في باقي الريف على أية حال ، عندما يريد رب أسرة الإقبال على سفر ، فإنه يتجنب الإعلان عن ذلك ، وخلال الليل ينصرف خُفية متسللا بين الجدران ، وبمجرد ما يكون خارج القرية ، يندفع بكل سرعة بين الحقول ، أو تحت الأحراش إن أمكنه ذلك . وعندما يصل إلى أرض الفرقة المجاورة يجد سلامة نسبية ، لكن أية سلامة هي ؛ فمقارنة مع الريف من هذا القبيل ، كانت غابة موندي [بفرنسا] بمثابة إقامة سلام وأمن وسعادة ، ولذلك قلَّ المسافرون وقلَّت الأسفار ببلاد المغرب ، إذ يجب أن يكون الفرد مدفوعا بضرورة قصوى لكي يغادر ضيعته أو قريته أو مدينته .

تحصل من وقت لآخر بعض الهدنة بين العزوات والقرى المجاورة ، لكنها تدوم عموما مدة قصيرة . بيد أنه لا بأس على الأجانب في مثيوة ، إن هم ارتدوا ثيابا ألوانها مخالفة لألوان ألبسة السكان المحليين ، الذين تكون جلاليبهم سوداء أو مخططة بالأبيض والأسود ، ولا يختص بهذا الامتياز إلا الأجانب الذين يُؤْوَوْن بالجوامع ، أما أيُّ قريب أو صديق مضيَّف عند إحدى العائلات ، فإنه يركب نفس المخاطر التي يركبها باقي أفراد هذه العائلة .

في الحلقة القادمة إن شاء الله ، يتطرق النص لبعض مظاهر الاحتفال بالأعراس بمثيوة .
إلى ذلك الحين ، حفظكم الله ورعاكم .

مع تحياتي ومودتي
محال الموساتي